"سأتّصل بك قريبا، استعد يا صديقي! فتعيينك في إحدى المؤسّسات الأمميّة، ممثلاً للوطن، أمر حتمي لا محالة".
كان هذا آخر ما سمعه ميمون من صديق عُمْرِهِ السيد عُمَر، عند تعيين هذا الأخير وزيرا في الحكومة الجديدة بعد سنوات من الكدِّ.
مرّ على ذلك عامان، لم يتلق فيهما ميمون على أي عرض من أيٍّ كان، وكانت كل أخبار السيد الوزير تصله عبر الإعلام الرسمي. فكثيرا ما تناول ميمون سماعة الهاتف ليطمئنّ على حرارة الهاتف وليتأكد أنه ليس معطّلا.
ميمون، و عُمَر صديق عُمْرِهِ، قدما من نفس القرية إلى المدينة منذ ثلاثين سنة، بغية الالتحاق بالجامعة ودراسة القانون. وسكنا بالحيّ الجامعي نفسه، ولاحقا بالمنزل ذاته بعدما اتمّا الدراسة، واشتغلا معا بنفس الوزارة.
ولم يعد يحتفظ السيد الوزير برقم هاتفه القديم، وكلما هاتفه ميمون في مقر الوزارة وإلا طلبوا منه أن يترك له رسالة، إلا أنه في الأخير لم يتلق أيُّ جواب عن عشرات الرسائل التي تركها لصديق عمره.
كان عمر دائما يقول بأنه لن ينسى وقوف صديقه ميمون الى جانبه أيّام الجامعة، عندما كان هذا الأخير يتقاسم معه كل ما لديه، حتي السجائر التي كان يشتريها بالتقسيط (الديطاي). فقد كان ميمون لا يمانع عندما يلبس عُمَر أحد معاطفه أيّام البرد، ولا يضجر عندما يستلف منه نقودا، وهو يعلم أنه لن يستردها منه، إذ كان يعلم أن عائلة صديقه عمر ليست بميسورة الحال. حتى البذلة التي استلفها منه، لاجتاز مباراة الولوج إلى العمل في الوزارة، لم يردها له، وميمون لم يبال أبدا.
التحقا بالعمل في الوزارة في اليوم نفسه، وعينا في المصلحة ذاتها، ثم انخرط عمر في الحزب الحاكم، و تفانى في إبداء حبه للوطن وانشغاله بالصالح العام، بينما اكتفى ميمون بأن يكون مواطنا صالحا. وكان ميمون في الكثير من الأحيان يشتغل حتى آخر المساء، ليتمم مهامه و مهام صديقه عمر، حين كان ينشغل هذا الأخير في أمور ومهام حزبه. إذ لم يشتك ميمون قط من كثرة التقارير التي كان يهيئها بالنيابة عن صديقه، حول تصوراته لحلول مشاكل الوزارة أو للرفع من جودة خدماتها، وكلما حصل عمر على مركز متقدم في الوزارة، وإلا عمل على أن يكون ميمون قربه.
مع تراجع شعبية الحزب، نشب خلاف بين عمر وقادته السياسيين، فانظم إلى الحزب المعارض، الذي كسب تقدما ملموسا في السنوات الأخيرة. بالرغم من المفارقات الإيديولوجية بين الحزبين، إلا أن عمر استطاع أن يلفت انتباه قادته ويفرض نفسه، وخاصة أنه كان يعلم كل صغيرة وكبيرة عن خصومه الذين كانوا رفاق الأمس. وسرعان ما وقع عمر في حب ابنة الكاتب العام لحزبه الجديد، و تزوج بها، فأصبح من قادة الحزب الذين يحسب لهم ألف حساب. وبعد شهور قليلة، حدث ما كان في حسبان عمر، ففاز حزبه الجديد بالانتخابات التشريعية، ليعيّن على رأس الوزارة التي اشتغل فيها، وانتقل الى المبنى المركزي.
استوزر عمر، وكثرت سفرياته وانشغالاته، وذلك كان أمرا طبيعيّا تفهمه صديقه الذي لم يبد أي لوم لعدم اتصاله به خلال الشهور الأولى، ولكن، وبعدما أن مضت سنتان دون أن يتلقى أي مكالمة من السيد الوزير أو من ديوانه، حاول طيّ الموضوع ونسيان الأمر.
وذات صباح، قرأ خبر وفاة صهر الوزير، وذهب إلى المأتم، وهناگ التقى بصديق عمره وفهم منه أن المنصب الذي وعده به، رغب به رئيس الحكومة لأحد أقربائه، ولم يستطع هو أن يمانع، ووعده بمنصب آخر في أقرب الآجال.
وبعد مرور ما يقارب السنة على لقائهما الأخير، وبعد أن نسى ميمون الأمر، رن الهاتف ذات مساء، وكان صديقه الوزير على الخط، و بادره بالسؤال "أما زلت قويا في لعبة "الدومينو؟" ، وتلعثم ميمون في جوابه بعد أن فوجئ بتلك المكالمة، وطلب منه السيد الوزير اللقاء به في المقهى التي گانا يجلسان فيها وهما طالبان جامعيان، لإحياء بعض ذكريات زمان، والحديث أيضا عن المستقبل وبعض الأمور، فاتفقا على أن يلتقيا على الساعة الرابعة من مساء اليوم الموالي.
لم ينم ميمون جيدا تلك الليلة، وفي الغد لم يستطع حتى التمدد للقيلولة التي اعتاد عليها، وخرج ساعتين قبل الموعد، مع أن المشوار من منزله إلى مكان اللقاء لم يكن يتطلب منه أكثر من دقائق معدودة، ووقف عند دكان وتبضع علبة سجائر وجريدة.
اختار طاولة معزولة بعض الشيء عن أعين زبائن المقهى، وبعد أن طلب قهوة، تصفح الجريدة، ولفت انتباهه خبر حتمية تعديل وزاري، وفي صفحة أخبار المجتمع جاء خبر زفاف الابنة الوحيدة للكاتب العام للحزب الحاكم، بأحد منافسي صديقه الوزير، وهو من القادة الشباب الذين التحقوا مؤخرا بالحزب. تبسم ميمون، وردد بصوت خافت "الشرع حلل أربعة، لكن أتت الرياح بما لا تشتهيه سفن السيد الوزير......تبا للانتهازيين وللمنافقين، ولمن يفرشون لهم الأرض وردا ".
وبعد أن حاسب النادل، غادر المقهى تاركا الجريدة فوق الطاولة، وعند وصوله إلى المنزل نزع خيط الهاتف، وارتمى فوق الأريكة وتمتع بقيلولته المسائية.
ملحوظة :
جميع الشخصيات في هذه القصة هي من وحي خيال المؤلف وليس لها أي علاقة بالواقع ..وأي تشابه في الأسماء أو الشخصيات أو الأحداث هو من قبيل الصدفة فقط.
كان هذا آخر ما سمعه ميمون من صديق عُمْرِهِ السيد عُمَر، عند تعيين هذا الأخير وزيرا في الحكومة الجديدة بعد سنوات من الكدِّ.
مرّ على ذلك عامان، لم يتلق فيهما ميمون على أي عرض من أيٍّ كان، وكانت كل أخبار السيد الوزير تصله عبر الإعلام الرسمي. فكثيرا ما تناول ميمون سماعة الهاتف ليطمئنّ على حرارة الهاتف وليتأكد أنه ليس معطّلا.
ميمون، و عُمَر صديق عُمْرِهِ، قدما من نفس القرية إلى المدينة منذ ثلاثين سنة، بغية الالتحاق بالجامعة ودراسة القانون. وسكنا بالحيّ الجامعي نفسه، ولاحقا بالمنزل ذاته بعدما اتمّا الدراسة، واشتغلا معا بنفس الوزارة.
ولم يعد يحتفظ السيد الوزير برقم هاتفه القديم، وكلما هاتفه ميمون في مقر الوزارة وإلا طلبوا منه أن يترك له رسالة، إلا أنه في الأخير لم يتلق أيُّ جواب عن عشرات الرسائل التي تركها لصديق عمره.
كان عمر دائما يقول بأنه لن ينسى وقوف صديقه ميمون الى جانبه أيّام الجامعة، عندما كان هذا الأخير يتقاسم معه كل ما لديه، حتي السجائر التي كان يشتريها بالتقسيط (الديطاي). فقد كان ميمون لا يمانع عندما يلبس عُمَر أحد معاطفه أيّام البرد، ولا يضجر عندما يستلف منه نقودا، وهو يعلم أنه لن يستردها منه، إذ كان يعلم أن عائلة صديقه عمر ليست بميسورة الحال. حتى البذلة التي استلفها منه، لاجتاز مباراة الولوج إلى العمل في الوزارة، لم يردها له، وميمون لم يبال أبدا.
التحقا بالعمل في الوزارة في اليوم نفسه، وعينا في المصلحة ذاتها، ثم انخرط عمر في الحزب الحاكم، و تفانى في إبداء حبه للوطن وانشغاله بالصالح العام، بينما اكتفى ميمون بأن يكون مواطنا صالحا. وكان ميمون في الكثير من الأحيان يشتغل حتى آخر المساء، ليتمم مهامه و مهام صديقه عمر، حين كان ينشغل هذا الأخير في أمور ومهام حزبه. إذ لم يشتك ميمون قط من كثرة التقارير التي كان يهيئها بالنيابة عن صديقه، حول تصوراته لحلول مشاكل الوزارة أو للرفع من جودة خدماتها، وكلما حصل عمر على مركز متقدم في الوزارة، وإلا عمل على أن يكون ميمون قربه.
مع تراجع شعبية الحزب، نشب خلاف بين عمر وقادته السياسيين، فانظم إلى الحزب المعارض، الذي كسب تقدما ملموسا في السنوات الأخيرة. بالرغم من المفارقات الإيديولوجية بين الحزبين، إلا أن عمر استطاع أن يلفت انتباه قادته ويفرض نفسه، وخاصة أنه كان يعلم كل صغيرة وكبيرة عن خصومه الذين كانوا رفاق الأمس. وسرعان ما وقع عمر في حب ابنة الكاتب العام لحزبه الجديد، و تزوج بها، فأصبح من قادة الحزب الذين يحسب لهم ألف حساب. وبعد شهور قليلة، حدث ما كان في حسبان عمر، ففاز حزبه الجديد بالانتخابات التشريعية، ليعيّن على رأس الوزارة التي اشتغل فيها، وانتقل الى المبنى المركزي.
استوزر عمر، وكثرت سفرياته وانشغالاته، وذلك كان أمرا طبيعيّا تفهمه صديقه الذي لم يبد أي لوم لعدم اتصاله به خلال الشهور الأولى، ولكن، وبعدما أن مضت سنتان دون أن يتلقى أي مكالمة من السيد الوزير أو من ديوانه، حاول طيّ الموضوع ونسيان الأمر.
وذات صباح، قرأ خبر وفاة صهر الوزير، وذهب إلى المأتم، وهناگ التقى بصديق عمره وفهم منه أن المنصب الذي وعده به، رغب به رئيس الحكومة لأحد أقربائه، ولم يستطع هو أن يمانع، ووعده بمنصب آخر في أقرب الآجال.
وبعد مرور ما يقارب السنة على لقائهما الأخير، وبعد أن نسى ميمون الأمر، رن الهاتف ذات مساء، وكان صديقه الوزير على الخط، و بادره بالسؤال "أما زلت قويا في لعبة "الدومينو؟" ، وتلعثم ميمون في جوابه بعد أن فوجئ بتلك المكالمة، وطلب منه السيد الوزير اللقاء به في المقهى التي گانا يجلسان فيها وهما طالبان جامعيان، لإحياء بعض ذكريات زمان، والحديث أيضا عن المستقبل وبعض الأمور، فاتفقا على أن يلتقيا على الساعة الرابعة من مساء اليوم الموالي.
لم ينم ميمون جيدا تلك الليلة، وفي الغد لم يستطع حتى التمدد للقيلولة التي اعتاد عليها، وخرج ساعتين قبل الموعد، مع أن المشوار من منزله إلى مكان اللقاء لم يكن يتطلب منه أكثر من دقائق معدودة، ووقف عند دكان وتبضع علبة سجائر وجريدة.
اختار طاولة معزولة بعض الشيء عن أعين زبائن المقهى، وبعد أن طلب قهوة، تصفح الجريدة، ولفت انتباهه خبر حتمية تعديل وزاري، وفي صفحة أخبار المجتمع جاء خبر زفاف الابنة الوحيدة للكاتب العام للحزب الحاكم، بأحد منافسي صديقه الوزير، وهو من القادة الشباب الذين التحقوا مؤخرا بالحزب. تبسم ميمون، وردد بصوت خافت "الشرع حلل أربعة، لكن أتت الرياح بما لا تشتهيه سفن السيد الوزير......تبا للانتهازيين وللمنافقين، ولمن يفرشون لهم الأرض وردا ".
وبعد أن حاسب النادل، غادر المقهى تاركا الجريدة فوق الطاولة، وعند وصوله إلى المنزل نزع خيط الهاتف، وارتمى فوق الأريكة وتمتع بقيلولته المسائية.
ملحوظة :
جميع الشخصيات في هذه القصة هي من وحي خيال المؤلف وليس لها أي علاقة بالواقع ..وأي تشابه في الأسماء أو الشخصيات أو الأحداث هو من قبيل الصدفة فقط.
تعليقات
إرسال تعليق