حملنا الشهيدَ على سيارة نقل عادية في ملكية أحد الرجال ممن حضر معنا عملية الغسل من بدايتها إلى نهايتها، أصبح بيننا عدد كبير من الحاضرين منهم المهاجرون في الديار الأوروبية ومنهم الغرباء، ومنهم من التحق بنا من أولئك الذين حضروا المأساة وشهدوا عليها في موقع الحادث المشئوم، صرنا نتقبل العزاء في وفاة الفقيه سي صالح ونحن نتأهب لنقله إلى المقبرة بمسقط رأسه، لما وصلنا إلى مقر الجماعة القروية في تاسوسفي حيث يتفرع الطريق إلى الوجهة المقصودة وجدنا هنالك جمعا غفيرا من الناس ينتظروننا، سيلتحقون بقافلة المشيعين،إنهم أصدقاء الضحية ومعارفه وأكثرهم هم أولئك الذين كان صالحُ رحمه الله تعالى يؤمهم في الصلوات ويقوم على شئون جامعهم فقيها وإماما، عدد من ساكنة دوار تازولت والمواضع المجاورة أتوا ليشيعوا من كان يؤذن فيهم بالصلاة فأصبحت القافلةُ تسير بجثمان الشهيد في عدد غير قليل من السيارات والعربات، تسير لتُشيِع صالحا إلى مثواه الأخير.
وصل الموكب الجنائزيُ المَهيبُ المباغتُ إلى مشارف الدوار وتوقف بالقرب من مقر المدرسة الابتدائية أين سينطلق الانطلاقةَ الأخيرةَ نحو حفرة القبر إلى حيث المصيرُ النهائيُ المحتوم، سيقطع المشيِعون أمتارا قليلة مشيا على الأقدام وقد حُمِل النعشُ على أكتاف أربعة من الرجال ومشى الجميعُ وراءه تُردِدُ ألسنتُهم الشهادةَ في أصوات منخفضة ذاتِ نبرة تذلل وخشوع ومن هذه الأصوات الآن تلك التي يخطب فيها صالحُ كل يوم جمعة فلا تسمع لها حتى همسا خفيفا، ها هو ذا الشهيد يعود عند العصر إلى مسقط رأسه في أكفان الموتى محمولا على الأكتاف وقد غادره في الصباح يمشي على قدميه ويلبس ثياب الأحياء، لا شك أنه قد مر ههنا بالذات هذا الصباح يخطو خطواته الأخيرة فوق أديم الأرض على الطريق المحاذية للمقبرة وهو يقصد وجهته ولا شك أنه قد تأدب بأدب المرور على المقابر ووقف قليلا ليقرأ السلامَ على أهلها ويدعو لهم بالمغفرة والرحمة ثم يعدهم اللِحاقَ بهم، هاهو ذا قد وفى بوعده وسيلحق بهم في هذه الساعة ليصبح ضيفا جديدا عليهم.
حكمة بالغة، عجِبتُ أنا والله لأمورِ القضاء والقدر في ذلك اليوم المشهود، يومِ الجمعةِ، كيف تصرفت قدرةُ الله في شأنه لتصبح الآيات عكسية تماما بين صلاتي الظهر والعصر، انقلبت الأمورُ كلُها رأسا على عقب، لقد كان من المعهود بل من المفروض وِفقا لما تجري به القوانين الفقهية واتباعا للقاعدة الدينية والشرعيةُ في شعائر صلاة الجمعة أن يُصبح صالحُ عند الظهيرة هو الحيَ الوحيدَ بين كلِ من يحضر الجُمُعةَ في المسجد، فبعد أن يعتليَ المنبرَ وقبل أن يخطُبَ في الناس كما يشاء ويتحرك كما يريد ويرفع يديه حيثما اتفق وينادي ويلتفت بوجهه ذات اليمين وذات الشِمال، قبل أن يبدأ ذلك كلَه يُتلى أولا على مسامع الحضور ذلك الحديثُ النبويُ الشهيرُ عن أبي الزناد عن الأعرج الذي يجعل من أبسط الأوامر الكلامية لغوا فمُبطِلا من مُبطِلات الصلاة، لذلك لا يقرأه القارئُ على أسماع الحاضرين في صلاة الجمعة حتى يَعُمَ المسجدَ صمتُ القبور ويتجمد المصلون في أماكنهم جمودَ الموتى في مقابرهم وكأن على رؤوسِهم الطيرَ، ويبقى المتحركُ الوحيدُ في المسجد والمتكلمُ الوحيد والمتنفِسُ الوحيد والحيُ الوحيد هو الخطيب، هو صالح دون سواه. ولكن قدرةَ الله حكمت بغير ذلك فأصبحت آياتُ العصر يومئذ غيرَ ما كان متوقعا لتصبحه آيات الظهر، صارت الحركة جمودا واستحال النبضُ سكتة فصار الجلباب كفنا وصار المنبر نعشا، لقد أصبح حيُ الأموات عند الظهيرة ميتَ الأحياء عند العصر.
كُبِر على الشهيد أربع تكبيرات وحُمِل جثمانُه ليوارى الثرى، أُزيل عنه الغطاءُ فتبين لي على الكفن عند موضع الأنف بعضُ قطرات الدماء، وقفتُ في الجنازة أشارك المشيعين أعمالَ الدفن والإقبار على إيقاع آيات من الذكر الحكيم تُتلى عن قرب هدية لروح الفقيد من ألسنة إخوانه الفقهاء، سيحملني المشهدُ بعيدا إلى الوراء، سترجعُ بي الذاكرةُ مسرعة لتطوي من عمري ساعات معدودات وسنوات عديدة، سترجع بيَ لأمُرَ أولا على الصدمةِ العنيفة عند حادث السير ثم أمضي ….
وصل الموكب الجنائزيُ المَهيبُ المباغتُ إلى مشارف الدوار وتوقف بالقرب من مقر المدرسة الابتدائية أين سينطلق الانطلاقةَ الأخيرةَ نحو حفرة القبر إلى حيث المصيرُ النهائيُ المحتوم، سيقطع المشيِعون أمتارا قليلة مشيا على الأقدام وقد حُمِل النعشُ على أكتاف أربعة من الرجال ومشى الجميعُ وراءه تُردِدُ ألسنتُهم الشهادةَ في أصوات منخفضة ذاتِ نبرة تذلل وخشوع ومن هذه الأصوات الآن تلك التي يخطب فيها صالحُ كل يوم جمعة فلا تسمع لها حتى همسا خفيفا، ها هو ذا الشهيد يعود عند العصر إلى مسقط رأسه في أكفان الموتى محمولا على الأكتاف وقد غادره في الصباح يمشي على قدميه ويلبس ثياب الأحياء، لا شك أنه قد مر ههنا بالذات هذا الصباح يخطو خطواته الأخيرة فوق أديم الأرض على الطريق المحاذية للمقبرة وهو يقصد وجهته ولا شك أنه قد تأدب بأدب المرور على المقابر ووقف قليلا ليقرأ السلامَ على أهلها ويدعو لهم بالمغفرة والرحمة ثم يعدهم اللِحاقَ بهم، هاهو ذا قد وفى بوعده وسيلحق بهم في هذه الساعة ليصبح ضيفا جديدا عليهم.
حكمة بالغة، عجِبتُ أنا والله لأمورِ القضاء والقدر في ذلك اليوم المشهود، يومِ الجمعةِ، كيف تصرفت قدرةُ الله في شأنه لتصبح الآيات عكسية تماما بين صلاتي الظهر والعصر، انقلبت الأمورُ كلُها رأسا على عقب، لقد كان من المعهود بل من المفروض وِفقا لما تجري به القوانين الفقهية واتباعا للقاعدة الدينية والشرعيةُ في شعائر صلاة الجمعة أن يُصبح صالحُ عند الظهيرة هو الحيَ الوحيدَ بين كلِ من يحضر الجُمُعةَ في المسجد، فبعد أن يعتليَ المنبرَ وقبل أن يخطُبَ في الناس كما يشاء ويتحرك كما يريد ويرفع يديه حيثما اتفق وينادي ويلتفت بوجهه ذات اليمين وذات الشِمال، قبل أن يبدأ ذلك كلَه يُتلى أولا على مسامع الحضور ذلك الحديثُ النبويُ الشهيرُ عن أبي الزناد عن الأعرج الذي يجعل من أبسط الأوامر الكلامية لغوا فمُبطِلا من مُبطِلات الصلاة، لذلك لا يقرأه القارئُ على أسماع الحاضرين في صلاة الجمعة حتى يَعُمَ المسجدَ صمتُ القبور ويتجمد المصلون في أماكنهم جمودَ الموتى في مقابرهم وكأن على رؤوسِهم الطيرَ، ويبقى المتحركُ الوحيدُ في المسجد والمتكلمُ الوحيد والمتنفِسُ الوحيد والحيُ الوحيد هو الخطيب، هو صالح دون سواه. ولكن قدرةَ الله حكمت بغير ذلك فأصبحت آياتُ العصر يومئذ غيرَ ما كان متوقعا لتصبحه آيات الظهر، صارت الحركة جمودا واستحال النبضُ سكتة فصار الجلباب كفنا وصار المنبر نعشا، لقد أصبح حيُ الأموات عند الظهيرة ميتَ الأحياء عند العصر.
كُبِر على الشهيد أربع تكبيرات وحُمِل جثمانُه ليوارى الثرى، أُزيل عنه الغطاءُ فتبين لي على الكفن عند موضع الأنف بعضُ قطرات الدماء، وقفتُ في الجنازة أشارك المشيعين أعمالَ الدفن والإقبار على إيقاع آيات من الذكر الحكيم تُتلى عن قرب هدية لروح الفقيد من ألسنة إخوانه الفقهاء، سيحملني المشهدُ بعيدا إلى الوراء، سترجعُ بي الذاكرةُ مسرعة لتطوي من عمري ساعات معدودات وسنوات عديدة، سترجع بيَ لأمُرَ أولا على الصدمةِ العنيفة عند حادث السير ثم أمضي ….
>>>>> يتبع
بقلم : عبد العزيز الزاهي
تعليقات
إرسال تعليق